القضية أكبر من أبي ..
صباح مشرق جميل, ظهرت الشمس اليوم على غير عادتها. فحتى أيام قليلة كان الجليد لا يزال يتساقط. ضحكات هاشم و شهاب أبنائي الصغار تملأ البيت برغم البكور. أمسكت بأيديهم الصغيرة و وضعتهم في العربة متجهين نحو المدرسة, و هم لا يزالون يلهون و يلعبون. وصلت, و قبل أن ألدف إلى المدرسة رن هاتفي. رقم يبدو أنه من السودان, حسبت فرق الوقت على عجالة, ترى كم هي الساعة هنالك الآن؟ رفعت السماعة سريعا قبل أن تفوتني المكالمة, صوت أختى تحيني و تخبرني على عجالة بأن أبي قد تم إستدعاءه للتحقيق معه.
توقفت لحظتها و حماسي لليوم المشرق قد بدأ يفتر, و سألتها عماذا التحقيق و لماذا, و هي لا تعرف غير أن هنالك شكوى قدمتها القيادة العامة للقوات المسلحة ضده بسبب كتابته لمقال"الجيش السوداني خمسون عاما من السياسة: تأملات مهنية فى إنفجارات السبت" و كان المقال قد نشر بصحيفة الأيام يوم الخميس الموافق 19 أبريل. و قد حلل الكاتب في ذلك المقال أحداث السبت و تعرض لأن هنالك روايتان لنفس الحدث, رسمية و شعبية. و فند الدعاوى التي وردت في التصاريح الرسمية من وجهة نظر مهنية بحسب خبربته السياسية و العسكرية. و إذا بقضية ترفع ضده بسبب ذلك المقال و السبب كما ورد في بيان صحافي للتحالف الوطني السوداني هو أن القيادة العامة للقوات المسلحة قد إعتبرت أن المقال فيه إنتقاصا لهيبتها مطالبة بتعويض قدره 100 مليون جنيه.
و عشت لحظات قاسية. تواردت على خاطرى لحظتها ذكريات بعيدة لطفلة غريرة طفقت تجري يوم جمعة و تلهو و تلعب. صوت أمي ينادينى أن ألتزم المنزل و أن أكف و أخوتي عن الإزعاج الكبير. أخالنى أراهما الآن, أمى و أبى, و هما ينصتان للراديو محاولان فهم مغزى تلك الموسيقى العسكرية التى تصدر من الراديو. مارشات, تكهنات, توقعات, و جلست على الأرض بجانب رجل أبى محاولة إستيعاب ما يدور حولي. و سمعت البيان الأول يلقيه عليكم "........" أول ما قاله لى أبى "أمشي لأولاد عمتك فى الصالون, و قولى ليهم مبروك عليكم الجبهة مسكت البلد." و جريت بخفة تتناسب و صغر سنى لأجدهم مجتمعين ايضا حول الراديو و نقلت لهم حديث أبي. و لم أكن أعلم أن تلكم الكلمات ستغير مجرى حياتي كلها و تقلبها رأسا على عقب.
و مرت أسابيع بعدها, و صارت ذات الأب معتقل. و مرت بعدها الأشهر لأقضى ريعان طفولتي ما بين المنزل و السجن و أحلام بقسوة العسكر. الخطوات صارت أكثر تؤدة و الحزن بالقلب صار أكبر. أين أبي؟ و لماذا هو معتقل؟ ماذا فعل؟ و ذات الطفلة تسأل, "هل قتل؟" الإجابة بلا. إذن هل سرق؟ الإجابة ايضا بلا. فهمونى إذن, عقلي يريد أن ينفجر. و مابين خواطرى تلك التى تنتابني, إتصلت بأيد مرتجفة محاولة أن أعرف التطورات و ماذا حدث. و خبرتنى أختي بأن والدي بخير و قد تم الإفراج عنه بضمان المحامى و بيدو أن الشكوى ستتحول إلى قضية كبرى و تمضى نحو المحكمة. و تنهدت حامدة ربى على أن اليوم هكذا إنتهى, و أستعد فى الوقت ذاته لجولة نفسية أخرى.
و بالرغم من قضية والدى, و بالرغم من خواطرى تلك, فهذا النقاش ليس عن أبى. و إنما عن قضية أخرى تكبره و تتعداه. إنها قضية جيل بأكمله, نحن الجيل الذى تضرر من الديكتاتوية و من القمع و عانى من ويلات الحروب و آثارها النفسية. قال لي أحد الأصدقاء معقبا على مقالات كنت قد نشرتها بأحد المواقع الإليكترونية متعرضة لحجم الألم النفسي, إن الشعب السوداني غير متعود على حديث المشاعر, و أن المجتمع منغلق لا يؤمن بعرض خلجات النفس و تفاصيل الألم. و صمت قليلا , ثم قلت له " لربما حان الوقت لكى يتعودوا, و لربما حان الوقت لكى نتحدث عن أنفسنا و يجب عليهم أن يصمتوا و أن يسمعوا, لعلهم يعوا."
و لست أول من كتب فى هذا الأمر أو تحدث عنه. فقد كتب د. عبد الله علي إبراهيم من قبل فى مقاله "وجه فى الزحام: غادة عبدالعزيز خالد" و كان المقال إبان محنة والدى و إعتقاله فى دولة الأمارات, و هذه قصة أخرى. كتب د. عبد الله قائلا " جاءت غادة الي زحام السياسة من إقليم الهموم الأصاغر. وربما كان الذي إضطرها الي هذا المركب هو مأزق أبي خالد النادر," و حقيقة قد كان. و تحدث فى ذات المقال عن الإبن أو الإبنة كيف بتأذون من وقع الظلم على الأب أو الأم المعارضة. و لم أكن أنا المثال الوحيد الذى تطرق له د. عبد الله, فقد تحدث عن الأستاذة منى عوض خوجلى قائلا انها بدت له كأنتقوني تطلب الكشف عن مثوي أخيها المجهول حتي يتفق له قبر ظاهر يزار.
و تحدثت الأستاذة منى نفسها عن اللحظات العصيبة التى مرت بها و أسرتها فى الثامن و العشرون من رمضان عام 1990 و هم لا يعرفون لإبنهم النقيب طيار مصطفى عوض الخوجلي مكانا. تقول منى " حـركـة غـير طبيعية في الخـرطوم...المـذياع يعلن ترقبوا بيـان هـام! توتر وترقب, ماذا هنـاك؟ تأخـر مصـطفي في رجـوعه للمنزل.ثـم المـذيع يعلن بيان هـام.ثم نسـمع, تم اليـوم دحض مـؤامـرة. رجـعت مـن العمل لأجـد الجميع في حـالة بكـاء وإرتباك شـديد, أمي وابي في حـالة يرثى لها. كذلك إخوتي و منار و الجيران. سألت بطريقة من يخاف أن يسمع خبر وفاة عزيز لها, فى شنو؟ جـائني الرد مترددا وخـافتا مـن احـدي الجارات "مافي حاجة كـدي اقعـدي. أخوكي مصطفى قبضوا عليه." ثم تعالى البكاء.
و تواصل منى سردها الحزين عن يوم إعدام أخاها مصطفى, و تقول " في تلك الصـالة الطويلة التي جمعتنا في طـفولتنا ومـراهقتنـا وشـبابنا في ايام المطـر وفي شـتاء الخـرطـوم. نفس الصـالة التي شـهدت نقاشاتنا الحـامية وشجـارنا علي الأمكـنة الأسـتراتيجـية, جلسـنا والعديـد من الجـيران معنا ننتظر أطول و أقسى إنتظار. يجلس أبي في السـرير يحـرك صـدره وذراعية للأمـام والخلف في توتر شـديد, ثم يستغفر. ثم يقول, يا رب, ثم يصمت ليكرر نفس الحركات بينما قدميه تتشابكان على الأرض إستدعاءا للقوة و خوفا من الإنهيار. بينما تجلس أمي فى السرير الذى يقابله فى حزن و يدها تضغط على الجانب الأيسر من صدرها و آهاتها المتقطعة لا تتوقف.
توزعنا نحن على باقي الأمكنة, و الكل مصر على أن لا يكون بعيدا عن المذياع حتى بعد أن رفع صوته إلى أعلى مداه. وأنا جالسة على الأرض أمسك إحدى الوسادات أحتضنها و أضغط بها على صدري و بأقصى قوتي كأني أحاول بذلك منع قلبى من شق صدرى و الخروج منه.
مـوسيقي نشـرة الأخـبار..
هـنا أم درمان نـذيع علي حضـراتكـم نشـرة أخـبار الثـالثة التي تأتيكـم من....
وإلي حضـراتكـم بيان السـيد رئيس.....
ثـم سمعنـا....الرتبـة....براءة
التجـريـد مـن الرتبـة...الســجـن لمـدة.......
التجـريـد مـن الرتبـة..الإعـدام
... التجـريـد مـن الرتبـة..الإعـدام...
التجـريـد مـن الرتبـة..الإعـدام
....................
مصـطفي عـوض خـوجـلي
صـراخ شـديد يشق قلب الدنيـا وأطـرافهـا وجـري مفـزوع ومـذهـول للشـارع مـع كـل أهل الإمتـداد آآآآه يا مصـطفى.
و تنهي منى كلماتها و كأن صراخها يدوي فى أذني أنا. قلبي يتقطع يا منى عليك و حاجة جارة و حاج عوض رحمه الله. فقد توفى وفى قلبه حزن لا يبلى. أذكر أن كانت إحتفالات شهداء إبريل بالقاهرة, و كانت حاجة جارة والدة الشهيد مصطفى خوجلى تتحدث و قبالتها حاج عوض. و فى لحظة رأيته و قد رفع نظارته محاولا مسح دمعة إنسابت من عينيه سريعا. و أعاد تلك النظارة إلى مكانها, و لكن رؤيتى له من يومها تغيرت.
و لست أنا و منى فقط الشركاء فى هذه الأحزان. فقد كتبت قصة عن ايمانويل و فرونيكا منذ عدة أسابيع, و هما شابان من جنوب السودان. و تحدث ايمانويل عن بداية الحرب فى قريته و هو إبن ثمانية سنوات. و ما يهمنا الآن قوله أن العديد من أصدقاءه قد قتلوا بالرصاص, و البعض قد أكلته السباع, و تحدث عن الألم النفسي الذى كان يعيشه و الكوابيس التي كانت تعتريه. و ايمانويل هو واحد من الجيل الذى كان صغيرا عندما بدأت الحروب و قاسى من ويلاتها و أحد الذين يطلق عليهم الإعلام الدولى "أطفال السودان الضائعون" و أطلق عليهم هذا اللقب لأنهم عاشوا حياتهم هربا فى الصحاري بلا أم أو أب أو دليل. و إستضافت إذاعة (أن بي آر) الأمريكية المعروفة العديد من الأطفال الضائعون فى برامجها.
من ضمن الشباب الذين إستضافتهم (أن بي آر) كان (ميكتوك). ميكتوك هو واحد ضمن ضمن أربعة آلاف لاجئ تم ترحيلهم بواسطة الأمم المتحدة من مخيمات الآجئين إلى الولايات المتحدة. يقول ميكتوك انه عندما كان فى الحادية عشرة من عمره لم يكن همه اللعب و لكن كان همه فى الحياة أن يظل على قيد الحياة و أن يحمى الأطفال الأصغر منه سنا من أنياب الحيوانات المفترسة. و يشرح ميكتوك انه كان يمر عليهم أسبوع بأكمله لا يذيقون فيه طعم الأكل و يعيشون فيه على بضعة قطرات من المياه فقط. كل شيئ كان جديد عليهم, الكهرباء و الثلاجة. اليوم تعدى ميكتوك الخامسة و العشرين و لكنه لا يزال غير مستطيع أن ينعم بطعم الأمان. و كيف يشعر به و هو يعلم أن غيره فى هذه اللحظات يمرون بنفس الذى كان يمر به. و يتواصل سرد الكثيرين بلا توقف أو إنقطاع.
في إحدى جلسات النقاش بالجامعة التى كنت أحضر بها رسالة الماجستير تحدثنا عن الحرب. و قال البروفيسور ان هنالك دراسة أجريت حديثا مفداها ان كل قتيل او جريح او مفقود فى معظم دول الوطن العربى يحزن عليه على الاقل خمسمائة فرد و يعزى ذلك لكبر دائرة الاهل و لتوثق العلاقات بين أفراد ألاسر. و فى تلك اللحظة حاولت ان احسب أن كم من خمسمائة فى السودان محزونون. المتضررين من حرب الجنوب و الآلآف من أحداث دارفور. مجدي و جرجس, أسر الشهداء, امهاتهم, أزواجهم, أبنائهم, أخوانهم و أخواتهم, زملائهم. و أذكر أن قلت أننى و بهذه الحسبة, فسأجد أن السودان كله محزون. وهززت رأسى محاولة أن أركز لحظتها فى الدرس مع أستاذى.
و تتفاوت درجات الضرر. فمن لم يعتقل والده أو تقتل والدته صار ربما مشردا ينتقل بين عواصم الدول. لكم من شباب و شابات فى عمر الزهور بعدوا عن أحضان الأسرة و تراب الوطن بغية لقمة العيش و الحياة الهنية. و ترتبت على هذه الهجرة الواسعة تبعات كثيرة. إحدى الأسر تزوج أبنها قبال عشرة سنوات من فتاة و سافر بها إلى محل إقامته بالولايات المتحدة الأمريكية و عاشا عيشة هنية. و لكن أسرة الفتى لم ترى الفتاه غير أيام عرسها, و لم يستطيعا أن يزوروهما هناك أو تعود هى نسبة لمشاكل الإقامة و الورق. و الأسواء من ذاك, أن أبا الفتى نفسه لم يلتقي بوالدة عروس إبنه كل هذه المدة. و صارت هذه الزيجة فى رأى مثال للعلاقات الإجتماعية فى زمان الشقاء و الترحال, بعدما كانت الأسر فى تواددهم و تراحمهم كمثل الجسد الواحد, إذا إشتكى منه عضو تداعى له باقي الجسد بالسهر و الحمى. و لا ندرى من نلوم. هل نلوم زماننا و ما لزماننا عيب سوانا!
القصد من هذا المقال ليس التباكى على طفولة غائرة, و إن حق لي ذلك. و ليس محاولة لرفع العقيرة بالبكاء, و إن كان الوضع يستحقه. و لكنها محاولة للفت النظر. إن الأطفال الذين عاشوا أوضاع متأزمة بإختلاف أحداثها و درجاتها اليوم هاهم قد كبروا, و اليوم هم يخبرونكم عما حدث لهم جراء ما تفعلون. قرار السجن, التعذيب أو المعتقل تعانى من جراه آلاف الأسر. و نعاني نحن جيل بعد جيل و ندفع الثمن. ماذا فعلنا لأجيال اليوم لنذو عنهم و نحميهم مما حدث لنا و أنا أشعر انها تتبع خطانا ؟ لا شيئ سوى وقفة عاجز و متفرج للحدث. أرقب صور أطفال دارفور و دوما ما أفكر, هذا الطفل بصورته و هو يهز أمه محاولا إيقاظها و قد أغلقت عينيها للأبد و دموعه على خديه, ترى هل سيأتي عليه يوم و يتعافى من أثر ذلك الحدث؟ و تلكم الطفلة, ذات العيون الساحرة, هل تراها يوما تنظر إلى العصافير و هي تغرد فوق الشجر و تنسى أن الدمار و الخراب كان هاهنا يوما؟ لست أدرى. ألم أقل لكم ان القضية أكبر من أبي!